• ×
الأربعاء 4 ديسمبر 2024 | 12-03-2024

شيزوفرينيا المسرح .. بين ثقافة المكان وخطاب العرض

شيزوفرينيا المسرح .. بين ثقافة المكان وخطاب العرض
0
0
 
حسن خيون - بلجيكا


عندما نتحدث عن المسرح، فإننا نستدعي أحد أعمق أشكال الفن التي تكشف عن جوهر الحياة. المسرح ليس مجرد وسيلة للترفيه، بل هو ظاهرة اجتماعية وثقافية تتغلغل في أعماق المجتمع لتستعرض مخاوفه وهواجسه. فهو يعبر عن الهويات الفردية والجماعية، ويشكل مساحة للتفاعل بين الثقافات، كما أنه منصة لتسليط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والنفسية. هذه الأبعاد تجعل المسرح فنًا يتجاوز الحدود الجغرافية واللغوية، ليصبح جزءًا لا يتجزأ من التراث الثقافي الإنساني. إنه ليس فقط وسيلة للحفاظ على الهوية الثقافية، بل هو كذلك وسيلة للتعبير عن التنوع والتعددية داخل المجتمعات التي قد تبدو من الخارج متماسكة، لكنها تحمل في داخلها طبقات من الصراعات والتناقضات، تمامًا كما يحدث عندما ننظر بشكل سطحي إلى الكتلة الصلبة.

العروض المسرحية تتأثر بعمق بثقافة المكان الذي تُقدَّم فيه، حيث يتفاعل العرض مع بيئته ليقدِّم تجربة فريدة للجمهور. هذا التأثير يتجاوز المساحات الضيقة للظاهرة الاجتماعية، ويمتد إلى الجغرافيا الثقافية بأبعادها المتعددة، ليخلق تباينًا في كيفية استقبال الجمهور للعرض.

فهم العرض يختلف بين جمهور وآخر، بحسب المرجعية الثقافية واختلاف التجارب الإنسانية. هذه الفروقات قد تؤدي إلى صعوبة في التلقي لدى جمهور بعيد عن المقاصد الثقافية للنص، مما يعمق “شيزوفرينيا المسرح” كظاهرة يجد فيها الفنانون أنفسهم ممزقين بين التعبير عن ذاتهم ( ثقافتهم) وبين ضعف التفاعل لدى جمهور مختلف الثقافات.

العولمة وتأثيرها على المسرح

في ظل العولمة، باتت هذه الشيزوفرينيا أكثر بروزًا. العولمة ليست مجرد قوة اقتصادية، بل هي عملية ثقافية تعيد تشكيل العلاقات بين الهويات المختلفة، فارضة على المسرحيين تحديات جديدة في التوفيق بين هويتهم الثقافية المحلية وتوقعات جمهور عالمي. المسرح الذي يسعى للتواصل مع جمهور متنوع يجد نفسه مضطرًا أحيانًا للتخلي عن بعض عناصره الثقافية الأصيلة، ما يثير تساؤلات حول قدرة المسرح على أن يصبح جسرًا حقيقيًا للتواصل بين الثقافات المختلفة، أو أنه سيظل أسيرًا لمفاهيم تقليدية تقف مثل جدار صلب أمام حرية التجريب. المسرح ما بعد الحداثي، على سبيل المثال، يحاول استخدام التعددية الثقافية كأداة لخلق أعمال تتجاوز الحدود الجغرافية وتخاطب التجربة الإنسانية بشكل أوسع. لكن هذه المحاولات تواجه صعوبات، خاصة عندما يتعلق الأمر بتقديم تلك الأعمال في بيئات ثقافية مختلفة. هنا يصبح التحدي هو كيفية خلق نوع من التوافق أساسه ثنائية، طرفاها الحفاظ على عمق النص الثقافي من جهة، والوصول الى منطقة يتفاعل فيها جمهور بعيد عن هذه المرجعيات.

التجربة الشخصية: صراع الهوية والتوقعات

من واقع تجربتي كمخرج مسرحي عربي معاصر من الشرق الأوسط يعمل ويعيش في بلجيكا، أجد نفسي باستمرار في مواجهة مع هذه الثنائية الثقافية. في إحدى المرات، سألني ناقد بلجيكي: “لماذا تضع قدمًا في الغرب وأخرى في الشرق؟” هذا السؤال يعكس التحدي الجوهري الذي يواجهه المخرج العربي عند محاولته تقديم عروض تتجاوز الهوية المحلية وتخاطب جمهورًا عالميًا. هل يمكن أن يصبح المسرح منصة حقيقية للتجريب والتغيير، أم أنه محكوم بالبقاء ضمن حدود ثقافته الأصلية؟

وهذا التحدي ليس شخصيًا فقط، بل يعكس واقعًا يعيشه العديد من المسرحيين الذين يعملون في بيئات متعددة الثقافات. في بلجيكا، التي تمثل نموذجًا للتنوع الثقافي واللغوي، يعكس المسرح تعقيدات المجتمع، وهذا ما يفرض على المسرحيين خلق مناخ مسرحي، ينطوي على تكيف مع جمهور متعدد الهويات مع الحفاظ على جذورهم الثقافية.

المستقبل: بين التجريب والتواصل الثقافي

في مواجهة هذه التحديات، يبرز سؤال أساسي حول مستقبل المسرح. هل يمكن أن يتجاوز المسرح دوره التقليدي ليصبح فضاءً أوسع للتجريب الثقافي؟ إذا كان الفن يهدف إلى التغيير، فإن المسرح يجب أن يكون في طليعة هذه العملية، ويجب أن يسعى إلى تجاوز الحدود الثقافية والجغرافية. المسرح يمكنه أن يكون أداة لإعادة تشكيل الهوية الثقافية وليس مجرد مرآة تعكس الواقع القائم.

في هذا السياق، يتعين على المسرحيين الذين يسعون لتقديم أعمال تعبر عن القضايا الإنسانية المشتركة أن يتبنوا رؤية تتجاوز حدود ثقافة المكان، وأن يستخدموا المسرح كجسر للتواصل بين الثقافات المختلفة. هذا يتطلب شجاعة وابتكارًا، خاصة في ظل أنظمة إدارية وثقافية قد تفرض قيودًا على حرية التجريب والإبداع.

لذلك، نجد بعض المخرجين مقيدين بهذا النظام الإداري، وهو في حد ذاته سلطة تمتلك مفاتيح الإنتاج، وينتج عن سياساته خوف المخرجين من النقد وفقدان الفرص. هذا يدفعهم إلى الانسحاب إلى منطقة عمل تقليدية، حيث يصعب الحركة فيها باندفاع نحو التغيير. والسؤال هنا: هل يمكن اعتبار هذا الوضع صراعًا بين الذات وهوية المكان؟ بين الرغبة في التجريب وتقبل الواقع بكل مشاكله، خصوصًا النظام الإداري الذي يفرض سلطته على الإنتاج؟

من ناحية أخرى، تواجه العروض المسرحية التي تُقدَّم في أوروبا، والتي ينتجها مسرحيون ينتمون إلى ثقافات متعددة، تحديات عند تقديمها في مهرجانات عربية ودولية. قال لي أحد الأصدقاء: “إذا أردنا المشاركة في مهرجان عربي دولي بعرض قدمناه من قبل في أوروبا ولاقى استحسانًا، سنُرمى بالطماطم.” هذه العبارة المجازية تعكس واقعًا يبدو محزنًا، لكن فنانين آخرين التزموا، رغم ذلك، برؤية أساسها التنوع الثقافي والشمولية والحرية، ولم يخافوا من رفض أعمالهم في أماكن خارج أوروبا.

في النهاية، أؤمن بأن دور المسرح لا ينبغي أن يقتصر على التعبير عن ثقافة أو بيئة محددة. المسرح هو في جوهره فضاء للإبداع والتجريب، ويجب أن يسعى إلى تجاوز الانقسامات الثقافية واستخدام التنوع كأداة لتعزيز الفهم المتبادل بين الشعوب. المسرح ليس مجرد وسيلة للترفيه، بل هو منصة للتغيير والتجديد، يسعى إلى تقديم تجارب إنسانية مشتركة، ويعمل على بناء جسور تربط بين الثقافات، مما يعزز الفهم والتواصل الإنساني في عالم يتسارع فيه التغيير، وهذا ما سعينا إليه عند تأسيس فرقتنا المسرحية “الفضاء الواحد. “



نقلاً عن الهيئة العربية للمسرح