• ×
الجمعة 22 نوفمبر 2024 | 11-21-2024

مسرح العبث ..

مسرح العبث ..
0
0
 نتج مسرح العبث عن ظروف سياسية وعالمية كبرى أدت بالفلاسفة المحدثين إلى إعادة التفكير في الثوابت وأنماط تفسير العلاقات الإنسانية وإعادة النظر حتى في أساليب الكتابة والتعبير عن هذه الأفكار. تأثر أصحاب المذهب العبثي بنتائج الحروب العالمية وما نتج عنها من خسائر مادية ومعنوية إضافة لعواقبها الوخيمة على الأفراد أمام عدد القتلى وصور الموت والدمار التي انتشرت في كل الأركان، أدت الحروب إلى خلق أجواء من الانفلاتات النفسية وإحساس بعدم الثقة والخوف لدى الكثير، سيطر عليها انعدام الثقة في الآخرين.

وأمام هذه الظروف من الفوضى والدمار استحال الإنسان الأوروبي إلى كائن منعزل مفرط في ذاتيته ،
وعلى المستوى المسرحي، كان أول ظهور لهذه المجموعة في فرنسا في الثلاثينات من القرن العشرين، حيث قدموا نمطًا جديدًا من الدراما المتمردة على الواقع، فجددوا في شكل المسرحية وبنائها الدرامي وكذا مضامينها ، ليكتمل نضج المسرح العبثي في أوائل الخمسينات من القرن العشرين، وبالذات في العام 1953 عندما طلع علينا الفرنسي الموطن والإيرلندي الأصل صامويل بيكيت 1906-1989 بمسرحيته الشهيرة 'في انتظار غودو'. وتدور أحداثها حول شخصية استراغون وفلاديمير وانتظارهم لشخصية لن تأتي اسمها 'غودو' ..
واتسمت المسرحية بغموض الفكرة وعدم وجود عقدة تقليدية، وغياب الحل أو النهاية الكلاسيكية التي تتوافق والخطابة السردية في شكلها التقليدي فكانت رمزية مبهمة للغاية ولوحظ قله عدد المسرحيين الذين مثلوها وكان الزمان والمكان بأبعاد مختلفة، يمكن الحديث عن اللازمان واللامكان تقريبا، وتركت المسرحية عدة أسئلة نقدية حول أسلوبها ومضمونها وحول شخصية غودو ، وتوفي صامويل بيكيت عام 1989م تاركاً وراءه الكثير من الجدل حول شخصية غودو.
من هو؟ هل سيصل؟ متى سيصل؟ ماذا سيفعل أو يقدم؟ ..
وحتى هذه اللحظة فإن الجدل السائد بين النقاد هو أن غودو لن يصل ، لقد ترك صاموئيل بيكيت خلفه ظاهرة أدبية وفنية مهمة ومؤثرة ومثيرة للجدل اسمها العبث أو اللامعقول، وكان رائد هذه الجماعة التي ثارت على كل ما هو مألوف سائرة في طريق العبث دون اهتمام بعامل الزمن لم يكن العبثيون في واقع أمرهم مدرسة أو جماعة وإنما مجموعة من المفكرين والكتاب غلبت على مشاعرهم وأحاسيسهم صفات تشابهت وظهرت في كل كتاباتهم الأدبية خاصة في المسرحية منها .

لقد جاء تمرد العبثيين على المدرسة التقليدية العريقة التي أرسى قواعدها أرسطو حينما وضع أسس النقد الأدبي للمسرحية الجيدة ومحدد عناصر نجاحها في ثلاثة هي: الزمان والمكان والحدث. العبثيون بدورهم ضربوا عرض الحائط بأرسطو وكتاباته ومنهجه وكل تاريخ المسرح، فتنكروا للعناصر الثلاثة المذكورة وقرروا أن تكون كتاباتهم في مكان محدود جدًا كشجرة (مسرحية في انتظار غودو) أو كغرفة (مسرحية الغرفة) أو كرسي (كمسرحية الكراسي)، وجعلوا عنصر الزمن غير ذي أهمية تذكر أما العقدة أو الحدث فلم يجعلوا لها وجودًا في مسرحياتهم. وإضافة إلى ذلك فقد عادوا بمسرحية الفصل الواحد والعدد المحدود من الشخصيات.
وأهم ما في مسرح العبث بعيدًا عن الزمان والمكان والحبكة هو الحوار، لكن ذلك الحوار كان غامضًا مبهمًا مبتورًا تعوزه الموضوعية والترابط والتجانس ، كل شخوص المسرحية تتحدث دون أن يتمكن أحد منهم من فهم الآخر! ولا من توصيل رسالته للآخر ، الحوار دائمًا مبتور ولا تستطيع الشخصيات توصيل رسائلها، وقد بالغ كتّاب العبث فجعلوا بعض الشخصيات تتكلم ربما كلمة أو كلمتين عند نهاية المسرحية تلخص السخط العام والغضب الشديد، ثم يصل بنا هارولد بنتر إلى ما هو أصعب من ذلك فنراه يقدم لنا شخصية الأخرس كشخصية رئيسية في مسرحية حملت اسمه (النادل الأخرس).

تعتبر حركة العبث أو اللامعقول والتي سميت بأكثر من مسمى مثل الكوميديا المظلمة وكوميديا المخاطر ومسرح اللاتوصيل امتداداً لحركات أدبية مختلفة ظهرت لفترات قصيرة في بدايات القرن العشرين زمنها على سبيل المثال السريالية، وهي حركة أدبية فنية عبّرت بقوة عن غضب الشباب من التقاليد السائدة في تلك الفترة، ثم حركة الشباب الغاضب وهي أيضاً حركة فنية أدبية يدل اسمها على الكثير من طريقة تفكير أصحابها بل ومن أشهر مسرحياتهم (أنظر خلفك في غضب) تعبيرًا عن غضبهم من الحروب العالمية ونتائجها غير الإنسانية ، وازدهرت هذه الحركات التي عبّرت عن مفاهيم ثائرة على القيم الفنية والأدبية في القرن العشرين، وكان ظهورها واضحًا جليًا بعد الحروب العالمية في محاوله للتعبير الصارخ عن التمرد الاجتماعي على الحروب الدامية وما فيها من مصائب وما تبعها من ويلات وأهوال، وما خلفته من القتلى والجرحى والدمار.

ازدهر العبثيون في الخمسينات من القرن العشرين وبدت مسرحياتهم للقاريء العادي وكأنها بلا خطة، وبلا هدف، كما أن نهاياتها غير واضحة المعالم وغير محددة وتعطي انطباعاً أو شعوراً بأن مصير الإنسانية غير معروف، ولا هدف له، وتجدر الإشارة إلى أن رائد العبثيين صامؤيل بيكيت حاز على جائزة نوبل للآداب لما قدمه من جديد في عالم الأدب، ومن أبرز كتّاب العبث يوجين يونيسكو البلغاري الذي مثل بيكيت كتب بالفرنسية، وآرثر أداموف الروسي، وجان جينيه الفرنسي ثم هارولد بنتر الإنجليزي ثم هناك زميل ثان تمثل في سمبسون الإنجليزي وادوارد البي الأمريكي وتوم ستوبارد الإنجليزي وهم أصحاب الأفكار التي تقرر الشكل والمحتوي في المسرحية.

من أهم السمات العامة لمسرح العبث قلة عدد شخوص المسرحية التي غالبًا ما تدور أحداثها في مكان ضيق أو محدود جدًا كغرفة مثلاً، وعلى سبيل المثال نرى كل مسرحيات هارولد بنتر تدور أحداثها داخل غرفة، والغرفة عادة مظلمة موحشة أو باردة ورطبة ولا يشعر من يعيش فيها براحة ولا باستقرار ولا بأمان على الإطلاق ويظل قلقًا دومًا، والغرفة يخاف من بداخلها من كل شيء خارجي، فهي مصدر قلق لعدم ملاءمتها، وفي الوقت نفسه ملجأ حماية من مخاطر خارجية محدقة دوماً، ودور المرأة في مسرح العبث يكون دوماً أقل أهمية من دور الرجل وتكون المرأة أكثر كآبة من الرجل لما تعانيه من اضطهاد اجتماعي واضح كما ونرى الغرفة في مسرحيات يوجين يونسكو إن كان لها مفهوم آخر فهي تبعث على الاطمئنان النسبي لأنها ملجأ ضد الأخطار الخارجية ووسيلة حماية لشخصيات المسرحية، والضوء الخافت أو العتمة والرطوبة العالية من سمات المكان في المسرح العبثي، كما أن اللغة فيها تكرار في الموقف الواحد وهذا التراكم الكمي من الأسباب يعطي مدلولات واضحة للخوف وعدم الطمأنينة والقلق الدائم، تلك العناصر التي تؤدي إلى غياب التفريق بين الوهم والحقيقة، وتؤدي أيضاً إلى عدم ثقة الشخصيات في المسرحية ببعضها البعض كما أنها تبين بما لا يدع مجالا للشك غياب الحلول الفعلية لمشاكل كثيرة، وعدم القدرة على مواجهة الأمر الواقع مع حيرة مستمرة وقلق متواصل وخوف متجدد من ماهية المستقبل وكيف سيكون.

ويعد مسرح العبث مهماً للغاية عند الأوروبيون لأنه يعكس واقعهم الاجتماعي المؤلم، ومن أهم المشكلات التي يعرض لها، معضلة الفردية، فالأوروبي يعيش رغم حضارته المادية والتقدم العلمي، إلا أنه يعاني من فرديته وانعزاليته نتيجة لعدم قدرته على بناء علاقات إنسانية اجتماعية أساسية ورصينة مع الآخرين ، وعلى أي حال فما زال هناك من النقاد من يعتقد بأن مسرح اللامعقول يتجه نحو حبكة واضحة المعالم، وأنه إذا أريد لهذا المسرح أن يكون شيئًا فلا بد له من الخروج من دائرة اللاشيء متجهًا نحو مواضيع فنية وسياسية وأدبية واجتماعية ودينية أكثر وضوحًا ، لكن المهم هنا هو أنه إذا ما غيرّ مسرح العبث توجهاته وشكله ومضمونه فانه سينتهي كفكرة ومضمون ومغزى.

وأهم ما قدمه لنا هذا اللون الجديد من الدراما هو دراسة نفسية وفكرية لأوروبا الحديثة وانعزالية الإنسان فيها، وفشله في بناء علاقات اجتماعية، فالمادة هناك هي المقياس الأول وهي المعيار والمحك، ومع هذا الوجود المادي العنيف تضاءلت قيم اجتماعية وتلاشت أخرى.
في الختام أود أن أسجل حقيقتين أولهما أنه لم يبق من العبثيين سوى هارولد بنتر الذي لم يضف أي عمل مسرحي منذ سنوات وتفرغ لكتابة المقال، والثانية أن بدايات القرن الحادي والعشرين شهدت تقييمًا للنتاج المسرحي في القرن الماضي فاعتبر النقاد مسرحية صامويل بيكيت (في انتظار غودو waiting for Godot) واحدة من أفضل مسرحيات القرن العشرين.