• ×
السبت 23 نوفمبر 2024 | 11-22-2024

عبقرية دراما اللامعقول

عبقرية دراما اللامعقول
0
0
الشبكة الإعلامية السعودية رؤية : ناصر بن محمد العُمري
مؤلف مسرحي سعودي


الفن بطبيعته الرافضة للسكون أحد أقدر الممارسات الإنسانية على البحث عن إسهامات حديثة وعلى القبول بالتجريب والنهم المستمر بإبتداع أساليب جديدة في التعبير وسن تقاليد حديثة حيث لايمكننا تخيل فن حقيقي يرضى بالركود والإستكانة والركون للقديم وتلك إحدى أهم حقائق وصفات الفن وسماته الراسخة
ومع هذه الجمالية التي تفترضها هذه الرؤية فأن الواقع يؤكد لنا أن تلك التعابير والمفاهيم والأشكال كثيراً ما أستقبلت بشيء من الحيرة واحياناً بالسخط
هذه الحقيقة تجسدت غير مرة ومن أبرزها سخط الناس الذي صاحب ظهور مايعرف بدراما اللامعقول أو مسرح اللامعقول رغم دور هذا التقليد في ظهور أشكال فنية ومدارس وممارسات نعيش أثرها حتى هذه اللحظة،
يجيء مارتن آسلين كأحد أهم من كتبوا عن هذا اللون الدرامي ومع هذا فقد ذهب إلى أنه لايمكننا الخلوص إلى تعبير ناجز جامع مانع ونهائي لدراما اللامعقول بل أنه لايعتقد بإلزامية هذا التصنيف معللاً ذلك بأنه يمكن لنا أن نفهم عرض مسرحي على ضوء هذا التقليد في حين أن هناك عوامل آخرى من نفس المسرحية مستمدة من تقاليد مغايرة ،
ولكنه يؤكد أن دراما اللامعقول نوع من الإختزال الفكري لنمط معقد من التشابه في التناول والطريقة والتقليد ومن الأسس الفنية والفلسفية المشتركة ... ومن تأثيرات ناجمة عن رصيد مشترك من التراث .
في واقع الأمر فأنه رغم ارتباط اللامعقول والعبث بالمسرح والدراما بشكل ظاهر بسبب ذيوع صيت عدد وافر من الأعمال المسرحية مثل رائعة بيكيت ( في إنتظار جودو) و(المغنية الصلعاء) ليونسكو
وغيرهما من الاعمال التي انجزالمسرحيون وكانت تلك الأعمال حين ظهورها مثار سخط ودهشة وعدم رضا الناس .العجيب والمدهش أن تلك القدرة على التعبير عن السخط كانت خلف نجاح تلك الأعمال
ورغم ذلك السخط وموجة الاستهجان ودوره في نجاحها الا أنه لم يكن السبب الوحيد لذيوعها فالثابت أن تلك الأعمال كانت تنطوي في معمارها الفني على مميزات صنعت لها الحضور ومنها أنها أعتمدت على خيال مفرط يشبه مانراه في أحلامنا وكوابيسنا
حيث لاتتطور الأحداث منطقياً وإنما بالتداعي كما أنها لاتنقل أفكاراً بل صوراً متتابعة مكون في الغالب من مشاهد غامضة وتحمل حشداً كبيراً من المعاني والرموز التي تحتمل تأويلات عديدة
فأكتسبت هذه الدراما من هذا التنوع الشديد قوتها
لكن هذا التوصيف يفشل ويبدو قاصراً عن أن يكون مساقاً تندرج تحته جميع اعمال ومسرحيات دراما اللامعقول فالراصد والباحث والمتتبع والمهتم يصطدم بأعمال مسرحية تنتمي لعالم الواقع لكنها تقدم نمطاً معقداً من الصورة الشعرية
كما في مسرحية ( قصة حديقة الحيوان) لأداموف
وهذا النوع من الدراما أثبت فرادته حين أكد للمتلقي أنه كلما زادت الصورة غموضاً وتركيباً جعلت عملية كشفها تعقيداًمحبباً وأزدادت جاذبية فمسرحية (في إنتظار جودو) وضعت لِتُطهر أنه لايمكن أن يحدث شيء أبداً في هذه الحياة الانسانية مما يجعلنا نوقن أن سر جمالية فنون اللامعقول بوجه عام ومسرحيات دراما اللامعقول على وجه الخصوص تأتي من كونها تعرض لنا صوراً إيمائية معقدة تفتقد للوضوح النهائي والترابط ولا تخضع للحلول الحاسمة التي أعتدنا توقعها .. بل أنها تضعنا إزاء حقيقة أن رواد فن اللامعقول. وكتاب هذا النوع من الأعمال منعتقون من أسر ( المعنى الجاهز)
ذاهبين نحو التعبير عما يجدون في هذا الكون وعما يعتمل في وجدانهم من معاني الإستغلاق والاستغراب وأحياناً البؤس والإفتقار إلى المنطق مرتهنين لبواعثهم الداخلية بعيداً عن أسر العالم العقلاني وهيمنته وخواء المنطق وعدم قدرته على الإقناع فالمسرحية محكمة الصنع في مذهبهم الفني وتصورهم هي وليدة معتقدات واضحة ومطمئنة وتنطلق من ثوابت متوهمة كأن يكون للعالم معنى والحقيقة ثابتة وراسخة وكل المعالم واضحة وكل الغايات جلية وهذا عكس الواقع الذي أنعكس أعمالاً تعبر عن إحساس بالضجر ورفض الواقع وغياب وفقدان الإحساس بالأمان .
ورغم أن المشتغلين بهذا الفن غير مهتمين بغايات المنظرين ولا بآرائهم
الا أن هذا التقليد تحول توجهاً راسخاً انتقل من المسرح إلى فنون آخرى عديدة ربما أن راهننا اليوم. هو شاهد حي على شيوع اللامعقول ففي مختلف الفنون والأجناس يواصل المبدعون الإنصراف نحو التعبير عن رؤاهم للعالم بأقصى مايقدرون عليه مدفوعين بحوافز لايمكن كبتها للقيام بأعمال تنعتق من أسر المثال والنموذج والتقليدي والقديم لتتماهى مع واقع يرون أنه يفتقر للمعنى بعد إنحلال ماكان يقينياً وإنهيار أسس التفاؤل والأمل الراسخة حين تحولت جميع التفسيرات المنطقية للواقع والآمال العريضة والغايات إلى سراب خُلب وهراء أجوف ومايشبه الصفير في الظلام
فظهرت هذه الفنون كإستجابة لهذا الواقع ولكي تستوعب اللحظة وتصورها بعين ( الغريب) على شكل تداعي حر أو حتى هذيان وصور مخيفة كون اللغة باتت متحجرة ، عاجزة ، وخالية من المعنى )
ولعلنا اليوم نعيش حقبة وأزمنة تجسد
هذا الواقع فاللغة تحولت أداة تستخدم لملء فراغات الوقت فمالذي سيقوله مثلاً مرتادي مواقع التواصل لبعضهم طوال هذا الوقت وعبر كل هذه المنصات وبكل هذه الأعداد إن لم يكن ملئاً لفراغات وقتهم ؟
وما الذي يمكننا قوله حين نرى الفضاء يعج بالاف المحطات والإذاعات أكثر من أن العالم استنزف كل مابه من معنى وتحول ثرثرة فارغة ؟
يحدث هذا ونحن على مسافة عدة سنوات من ظهور دراما اللامعقول التي كان استشرافاً لهذا الحال ونبوءة فنية لواقع قادم تحولت فيه الفنون في مجملها معارضات ساخرة ومستهزئة بلغة الفلسفة والعلم والنخبة
فكما كان بيكيت ( رائد دراما اللامعقول) يتفق مع أعلى درجات الواقعية حيث أحاديث الناس في واقعها اليوم لامعقوله ومجرد استنزاف للوقت فأنه يمكننا اعتبار دراما اللامعقول أكثر أدواتنا دقة وعبقرية في نقل حقيقة عالم اليوم الذي أصبح (لامعقولاً)
ويجعل منها مسرحاً عبقرياً بل أنه يتقاطع كثيراً مع فلسفة "هايدجر وسارتر وكامو" الوجودية التي تنفي اللامعقولية الأساسية في حياة الإنسان
وتقول بإفلاس جميع النظم الفكرية التي كانت ترنو إلى تفسير كلي للواقع
فماشغل بال الفلاسفة يشغل بال المسرحيين في تجاوبهم مع الوضع الروحي والثقافي للإنسان
وهو مايشغل بال فنان اليوم بوجه العموم
وكما كانت دراما اللامعقول مزيجاً جديداً لتقاليد وسنن ادبية ودرامية قديمة وبالية منها ماهو مذهل وفظيع ومنها مايبدو هازئاً ومنها ماهو تهريج وهزلي وإيمائي وشعبي ورمزي ومجازي
ومنها مايختلط بمشاهد الجنون ووحي السينما الصامتة بما يتخللها من ضحك قاسي وهستيريا وكوابيس وأحلام وفانتازيا وقسوة
وقد نجح أعلام هذا التقليد في تقديم هذا الخليط في قالب درامي تحول مع الوقت منهجاً تسرب لبقية الفنون بدليل مانشاهده اليوم من فنون مختلفة تشترك في أنها تتقاطع مع تلك العوالم التي صنعتها دراما اللامعقول
ووصلت إلى ظهور مايعرف بسقوط النخبة وصعود الشعبي وهذا الواقع لايبتعد كثيراً عن اللحظات الأولى لظهور هذه الدراما بل أنها -أي دراما اللامعقول - كانت إرهاصاً لانتشار فنون الجدل وساهمت في الإحتفاء ب( طفولة الفن) وجماليات القبح وفنون اللامعنى وماسواها من أشكال يذهلنا انتشارها