• ×
الجمعة 22 نوفمبر 2024 | 11-21-2024

رسالة من السجينة السياسية المقاومة السيدة مريم أكبري من سجن ايفين

رسالة من السجينة السياسية المقاومة السيدة مريم أكبري من سجن ايفين
0
0
الشبكة الإعلامية السعودية تحدثنا وقرأنا عن الملاحم الرائعة للشهداء الخالدين، وتغنينا عن أروع الملاحم في تاريخ حرية الشعب الايراني، بقلب مفعم بالمحبة والايمان؛ أحيّي تلك الأرواح الطاهرة لاولئك الأبطال المكبلين واولئك الشهود على آيات الصدق والوفاء والايثار.

وأكتب لاولئك الأمهات والآباء الذين ينحني جبل دماوند أمام مقاومتهم الصلبة. تقديرا لما وهبوا من تعبير راق وانساني لكلمة «الأم»، وتكريما لعطاءاتهم السخية المستمرة في كل لحظة، وتصبّرهم على المكروه كأنّه نسيم عليل يهب من السماء.

أتصفح أوراق ذكرياتي أنتقل من واحدة الى أخرى لأصل الى صفحة أجد فيها نظرتك المألوفة؛ نظرتك الحنونة التي تحمل كمرسال بداخله دفء الحياة ويختبر الوجود وصرخة تطلق لطلب الحق. فكانت الأيام صاخبة بعودة أسرى الحرب الى الوطن. وكانت حارتنا مزدانة لاستقبال عودة رضا بن زهراء السيدة الجارة لنا. وكانت الأم كالعادة قد ذهبت الى مقبرة «بهشت زهراء» وعادت وقت الظهر الى البيت.

أتذكر جيدا تلك اللحظة، احتضنت الأم، رضا وكانت تقبّل خدّه كأنّها تقبّل خدّ عزيزها عبدالرضا الذي لم يمر من استشهاده الا أيام معدودات. كنتِ غارقة في أفكارك كل اليوم؛ وكانت نظرتك تتحدث عن سوط العذاب الذي لحق بكِ جراء الظلم. وكانت نظرتي تتابعكِ وغطت كل قامتك الشامخة التي اجتازت كل الأيام الصعبة ومحطاتها العصيبة مع كل أعمال الجور وأبت الا وأن تبقى صامدة. وأنا مازلت أتذكر تلك العبارة التي قلتِ في ذلك اليوم «يا ليت كان بامكاني أن أحتفل بعودة أعزائي، فيما لم أر لا جثامينهم ، بل حتى لا يسمحون لي أن أقيم العزاء لهم».

نعم، في تلك الأيام التي كانت شوارع ايران مزدانة بالزهور وكل حارات البلد مضاءة لاستقبال أسرى الحرب وكان الناس في غمرة الفرح والسرور، كانت هناك في الوقت نفسه أمهات يعشن في خلوة مع الله مفجوعات بعزاء أبنائهن العزل الذين أعدمهم النظام ولم يعرف أحد ماذا كان يجري في قلوبهن من حزن ومؤاساة!

وأصبحت هدهدة هؤلاء الأمهات لأبنائهن أنشودة، تلوح في آفاق الحرية بشائر عودة سلالة الحقيقة الربانية لتبقى خالدة في الأرض وتمنح العالم معناها بقدر همته وحبه لها. هؤلاء الأمهات العزيزات اللاتي ذُبح فلذات أكبادهن مثل الحمائم على آيدي أزلام النظام ليصبغوا موائد أسيادهم بالدم، أصبحن مصادر الهام ودافع وقدوة للفداء والصمود والبطولة.
وكان أبي وأمي نموذجا من هؤلاء الآباء والأمهات الذين وُلدوا على هيكل انسان في أرض مليئة بالحرمان وبلد حافل بالمرارة يشنقون أناسا جورا وظلما بحبال رفعت اتكالا بما يسمونه بمكيال العدالة ولكن هؤلاء الآباء والأمهات بقي طبعهم يجري في عروق تاريخ هذا البلد. اولئك الذين سطروا في عصرهم فتوحات في التاريخ رغم أن هذه الفتوحات الباهرة لم توثّق، الا أنها ستخلد الى الأبد مترجمة على شكل العشق والحب الصامت.

ان كلمة «الأم» هي عبارة عن الحب والايثار والتضحية والتفاني. الا أنه كانت هناك أمهات أعطين العشق والحب مغزى ومفهوما أوسع بتضحية أعزائهن. حبا لا يمكن وصفه في أي ورقة. وأذكر أمهات وقفن صامدات شامخات كآشجار باسقات أبين إلا وأن يصرخن بوجه كل ما حاول حصرهن، وهكذا أزلن كل الغبار عن وجوههن ليعرفن أبنائهن في مرآة الذكريات من جديد. انهن وقفن بصمود وشموخ فاق تصور السفاحين، ليفضحن ظلم الحكم الاسلامي في كل العالم وهكذا أصبحن شاهدات على العدالة الدامغة.

1- الأم مثنى (فردوس محبوب) التي أعدم النظام ثلاثة من أبنائها مرتضى، وعلي، ومصطفى في ثمانينات القرن الماضي مع عروسها «ناهيد رحماني» وشقيقها «ناصر رحماني» (جثمان ناهيد وناصر وبسبب زيارة الصليب الأحمر ووجود كدس هائل من الجثامين، تم رميهما في بحيرة قم). سمعت الأم مثنى خبر استشهاد ثلاثة من شهدائها في السجن، وجرحت مخالب الظلم جسمها الا أنها رفعت رأسها اعتزازا بنفسها لتبقى مثالا وقدوة أمام العالم.

2- الأم «عفت شبستري» التي اصيبت بالشلل في السجن اثر الروماتيزم . أعدموا ولدها وبنتها «رفعت وصغرى خلداي» ثم اعتقلوا ابنها الثاني قاسم في العام 1980 ثم شنقوه بعد 8 سنوات. وعندما أخذوها الى جثمان ابنها، فأخذت نظرتها من جثة ابنها وقالت اني لا أستعيد الهدية التي قدمتها في سبيل الله.ربما اذا كان السمع يتحمل، يسمع دوي صرخة هبوطك في القاعة الصامتة لمجرات بلا شموس...

3- الأم «جهان آرا» التي تعرفها ايران باسم أم لثلاثة شهداء ولا اسما عن شهيدها الرابع «حسن جهان آرا». حسن كان من أعضاء منظمة مجاهدي خلق الايرانية وهو من كوكبة الشهداء في العام 1988. لم يسمحوا اطلاقا لهذه الأم بأن تتكلم عن حسن. وهذه الأم التي وهبت أبنائها من أجل حرية الوطن، فعليها أن تقوم في خلوتها مع الله بعزاء حسن! ولو أن صمتها هو أبلغ من أي كلام فصيح.

4- الأم ودود، واستشهد «ودود» قبل الثمانينات. وكانت الأم تبحث عنه في كل مكان. وعندما كان في ثلاجة الأموات تبحث عن ابنها، فعرفت ابنها من أقدامه فسرعان ما احتضنت أقدام «ودود» الباردة وقربتها بقلبها الحارقة وعندما رجعت الى الزنزانة قالت لصاحباتها في الزنزانة : «كانت أقدامه باردة، جعلتها على قلبي فأصبحت دافئة».

وهكذا جُبّلت طبيعتنا على صفة نحن الجمع، وعلى شاكلة الانسان الرائعة لكي نجلس في الربيع لمشاهدة فراشة بألوان قوس قزح وندرك شموخ الجبال ونسمع سطوة البحار. مضت تلك السنوات الضالة والمعتمة التي كانت قصص أمهاتنا رسائل معاناة وعذابات لا تصدق عن آلام ملموسة، وكان نور المحبة والحنان يتلألأ من عيونهن ويعكس صمتهن صرخاتهن تدعو الضمير الانساني الى التضامن.
تصفحتُ أوراق ذكرياتي منذ تلك الأيام والى اليوم بانتظار هذه اللحظة وهذه الصورة من الزمن لكي تتجلى حقيقة مقاومة هؤلاء الأمهات والآباء بأنهم لم يخافوا من ظلمات العصر وبرودة الأيام و تصبّرهم على نوائب الدهر مما يجعل المرء مندهشا أمامه. هؤلاء أطلقوا تيارا يطالب باستمرار بالمساواة والحرية في ايران. انهم كانوا ومازالوا محط أمل للشعب الايراني. انهم أعطوا بحياتهم ومماتهم في تاريخ ايران للكلمات معنى وأصبحوا أدلة ونباريس للحرية والفكر المبني على العقيدة.
ان صرخاتكم لن تترك سدى. وان حركة المقاضاة اليوم هي جاءت تلبية لندائكم.
وسيأتي يوم نحسّ فيه دفء الشمس المنبعثة من الحب والأمل والعدالة، يوم بات فيه السجن والتعذيب والاعدام ضمن القصص الاساطيرية ويوم تحس ايران حضوركم.

مريم أكبري منفرد – سجن ايفين – أغسطس 2017