• ×
الجمعة 27 ديسمبر 2024 | 12-26-2024

الرابع من نوفمبر

0
0
 عندما كنت أمر بطريقي المعتاد بين القرى التهامية الصغيرة , والموزّعة على سفوح الجبال , كانت تقف على جنبات تلك الطرق الضيقة والخطيرة – منذ سنتين تقريباً - , لافتات عملاقة تحذّر من الفساد بعبارات مختلفة : ( الفساد هدر للمال العام ) , ( الفساد يعطّل التنمية ) . ( الفساد هدر للموارد ) ... إلخ , ومن يعرف تركيبة سكّان هذه القرى يعرف جيداً أن هذه العبارات الرنانة لاتتجاوز في مفهومهم عن الفساد أكثر مما يتشدّق به مشايخ الوعظ - في زياراتهم الخاطفة - لدى مساجدهم الصغيرة , اذ أن مفهوم الفساد لايعدو في نظرهم سوى التبذير والإسراف , والتهديد والوعيد لمن يفكر في ذلك ..

اليوم حتى في روتينه المعتاد اختلف به الشكل والمضمون , وماحدث في الرابع من نوفمبر أدّى الى تساقط أحجار الدومينو تباعاً , ففي هذا اليوم العظيم وعندما أمر الملك بتشكيل لجنة لمكافحة الفساد يرأسها صاحب السمو الملكي الامير محمد بن سلمان تهاوت مفاهيم كثيرة لمن يرى ويعي مايحدث , وانقلبت الموازين , فالهيئة التي أطاحت بزمرة المتهمين بشبهة فساد مالي , كشفت لنا الغطاء أيضاً للجوانب التي ساعدت في إبقاء الفساد شامخاً لايمكن المساس به طوال هذه السنين, فالضمير الأخلاقي والديني الذي ساعد في صمود الفساد بل في أحيان كثيرة كان منتفعاً منه في الدرجة الأولى , أصبح موضع شبهة وغير موثوق به , اذ لم يحدث وقال هذا الضمير الاخلاقي كما يحب أن يقول عن نفسه وفي عز زخمه اليومي بأن الفساد المالي والثقافي أيضاُ كان يأتي من بعض عليّة القوم الذين طوّح بهم الامير المخلّص محمد بن سلمان , بل لم يكن يجرؤ في صحوة صحوته – أي ذاك الضمير - أن يشير بأصابع الاتهام لهؤلاء القوم , ولم يحاول لحظة أن يقف في طريق تجذّره الى أدنى طبقات السلّم الاجتماعي ولو مواراة وتلميحاً ..

وعليه تكوّنت صورة مهزوزة لدى الفرد البسيط في هذه القرى الصغيرة المترامية خلف الجبال , بأن من ادّعى أنه حريص بإسم الله على تنوير الناس ومحاولة الاسهام في زيادة وعيهم الديني والاخلاقي , هو صاحب خدعة فقط ! ينتظر الفرصة ليتخلّى عن كل نشاطاته الاجتماعية تلك والانسلاخ من مبادئه التي كان يرددها بضجيج مقزز , والارتماء بعيداً عن أحضان الفلاحين والغلابة من قاطني هذه القرى ..

اليوم لن يُنسى هذا التاريخ مهما كان , بل سيقام له ذكرى سنوية للاحتفال به , يوم العدالة العظيم , سنظل نثحدث عنه بكبرياء طوال الوقت , حيث لم يكن يتصوّر المواطن البسيط في هذه القرية أو تلك أن يرى نفسه يوماً ما يفكّر بأن هذه اللافتات الضخمة تعني بالفعل ما تعنيه , وليست منصوبة هكذا تثير ضميره وتؤنّبه*لأنه مسرف ومبذّر ومتهم
هو أيضاً كما يحب أن يتشدّق به الوعاظ , بأنك أنت الفاسد على الدوام وطيلة الدقائق والساعات , وأنه حري بك أن تتوب إلى الله ..